سينشي
عدد المساهمات : 892 تاريخ التسجيل : 14/02/2009
| موضوع: تناقص الفلاسفة مؤشر خطير يقلق فرنسا الثلاثاء أكتوبر 23, 2012 11:08 pm | |
| منذ فترة وجيزة أعلنت فرنسا عبر وسائل إعلامها ممثلة في جمعياتها العلمية والأكاديمية قلقها الشديد من تناقص الفلاسفة في البلاد واعتبرته مؤشراً غير حضاري وهماً يقلق فرنسا كثيراً. هذا الاعلان الفريد لا يليق إلاّ بفرنسا والفرنسيين ذوي الأعراف والتقاليد الثقافية العريقة ولا يمكن أن يصدر إلاّ من أمة تعي دورها الحضاري وتأثيرها الثقافي الأممي، وأيضاً لم ينطلق من مباهاة فارغة بل من مرجعية فكرية وفلسفية إنسانية أسست للعالم قواعد حقوقية ومبادئ ومفاهيم ما زال المجتمع المتحضر يفتخر ويتمسك بها حتى يومنا هذا كالحق الطبيعي والحق المدني والحق العام وفكرة سيادة القانون والحرية والمساواة والإرادة القومية، وجلها مساهمات فرنسية أبدعها عقل الفيلسوف الفرنسي الفذ الحديث والمعاصر، ولا غرابة فهي الرحم المعرفي الولود الذي أنجب أعظم فلاسفة الغرب على الإطلاق.
من يزايد على فرنسا؟
وبعد كل هذا هل يحق لأحد المزايدة على فرنسا ويشاركها ذلك القلق؟ وعموماً تلك المبادرة وذلك القلق لن يقبل إلاّ من فرنسا والفرنسيين فقط ولا أبالغ إذا قلت لا يضاهي الفرنسيين إلاّ العرب باعتزازهم وشغفهم الدائم بالموروث الثقافي وربطهم الهوية الحضارية بذلك والاستعداد للتصدي والدفاع عنه بثقة وشراسة. وهذه السمة المشتركة بيننا وبينهم لا يختلف عليها اثنان، وهم تقريباً الشعب الوحيد بين شعوب الغرب الذي يمارس هذا الفعل الثقافي الحضاري من دون اعتبارات أو التفات للتهم، التي قد تصل الى نعت فرنسا والفرنسيين بالانغلاق والتعصب وهي تُهم يتحاشاها الغرب عموماً. هذا السلوك الفرنسي يستهوي العرب كثيراً، بل قد جعلوه مبرراً قوياً للدفاع عن هويتهم وثقافتهم أمام الآخر في ظل الانفتاح على العالم من دون تحسس أو حرج، لكن وبكل تأكيد فالممارسة الفرنسية ليست استقلالاً عن الآخر أو استسلاماً للماضي، بل خصوصية منفتحة وضد الانغلاق وإقصاء الآخر، هذا القلق المعرفي الرائع (ولنقل المنوفست العالمي) المشحون بالمسؤولية إزاء الفكر والفلسفة والفلاسفة من قبل فرنسا هل له نظير في أوساطنا العلمية والفكرية؟
بمعنى هل هناك حضور أو وعي تاريخي لأزمة معرفية حلت بالعرب يوماً على غرار القلق الفرنسي سالف الذكر وأصبحت همّاً يجب عدم تجاوزه؟
أعتقد ان هناك شيئاً قريباً من هذا وهي (أزمة غائبة) إن جاز التعبير، حيث بدأ مفكرونا استجلابها من الماضي والتعاطي معها بوعي فريد وبأدوات وآليات معرفية غير مسبوقة ألا وهي تجربتنا الفلسفية المندثرة والتي ازدهرت في القرون الأولى من تاريخنا العربي والاسلامي أو ما يسمى بعصر الأنوار العربي الأول، حيث طرحوا تساؤلات مهمة وجليلة تمحورت حول ذلك التراث الفلسفي الضخم الذي خلفه لنا الأسلاف، وتصدوا لدراسة تلك الظروف، التي جعلتها تتوقف عند تأصيل الماضي قروناً وقروناً ولم تواصل المسير أو تتفاعل مع الصيرورة الزمانية لمتغيرات العرب العلمية والاجتماعية والسياسية عبر تاريخهم الطويل أسوة بالفلسفة الاغريقية، ومراحل تطورها وقفزاتها مع عظماء فلاسفة أوروبا عبر عصورها المختلفة، المهمة قومية تاريخية بلا شك وعظيمة وجليلة، وقد بلغ الجد والنهوض بها درجة الجدل الفعلي. ومنظومة هذا الجدل مناهج نقدية حديثة تقوم على الطرح والتحليل والمعالجة العلمية الموضوعية ابتكرها وتولاها مفكرون عرب بارزون هم أصحاب المشاريع، مشاريع تجديد الفكر العربي الاسلامي وذلك بنقده وقراءته من جديد وإعادة بناء الذات العربية والاسلامية ثقافياً وحضارياً.
الفلسفة بين المعرفة والايديولوجية وأخص بالذكر التراث الفلسفي الذي يتعرض اليوم إلى دراسة نقدية لا مثيل لها في التاريخ العربي والإسلامي، حيث طبق عليه أصحاب المشاريع النقدية سالفة الذكر المناهج النقدية الحديثة، التي مكنتهم من تفكيك أو تشريح وحفر تراثنا الفلسفي مما جعلنا نقف مبهورين مندهشين لعظمة الناقد والمنقود، حيث قاموا بمهمتهم خير قيام، وأعادت لنا توازننا وثقتنا بتراثنا بعد ان مر عليه ردح من الزمن زاهدين به مقللين من شأنه مبهورين بالآخر وتراثه. وبفضل ذلك بدأنا نقبل ونستسيغ ونعي حضور التراث الفلسفي العربي والإسلامي كمفهوم معرفي في الساحة الفكرية بعيداً عن المفهوم الأيديولوجي في الخطاب العربي والإسلامي المعاصر.
صحيح أن هناك بعض التحفظ على إعادة تلك القراءة لفلسفتنا وبتلك الابستيمولوجيا الغربية في بعض مفاهيمها الإجرائية (المناهج المطبقة على تلك الدراسة)، لكن يجب أن لا نستهين بتلك المشاريع النقدية، حيث يتوقع البعض أنه سيأتي اليوم وتعتبر قراءتها النقدية الحالية لتراثنا الفلسفي هي المفصل والقطيعة مع القراءة التقليدية وأدواتها المفهومية القديمة، التي استخدمت في النقد والتفكير والحوار، حيث يقول أبرزهم وهو المفكر والناقد الكبير محمد الجابري: يجب الأخذ بيد القارئ من باب التحليل التكويني والطرح الأيديولوجي والانتهاء بالمعالجة البنيوية. تلك هي عناصر اللحظة الأولى من المنهج الذي يقترحه ويحاول تطبيقه لحظة الموضوعية أو تحقيق الانفصال عن الموضوع. نعم إنها لحظة تاريخية نهوضية يجب دعمها وعدم السعي إلى هدمها، فهي ما كادت تبزغ حتى حجبتها سحب النقد المضاد وامتلأت الساحة بمشاريع نقد النقد لمشروع لم يكتمل فيجب تسليط الضوء عليه وتعميق الوعي به والثقة فيه كمنهج فكري من حيث هو بناء على البناء.
ألم أقل لكم انه لا يشبه الفرنسيين إلاّ نحن العرب فمشاريعنا النقدية للفلسفة وتاريخها ترجمة حقيقية لواقع مقلق ومواجهة واعية مع أزمة أجلناها قروناًً وقروناً حتى كاد المغيب أن يطويها ويطمس معالمها ويطفئ أنوارها بعد التصادم الماحق والمريع، الذي حدث بين أهلها والقادحين بها. ولا غرو فالفلسفة هي الساحة الوحيدة، التي التقت عندها مختلف التيارات السياسية والمذاهب الدينية بصراعاتها الحادة يومذاك وهي من أخطر المسائل، التي واجهت وتواجه العقل العربي والإسلامي على مر العصور.
| |
|