منتديات التعليميه والخدميه
أهلا بكم زائرنا الكريم: منتديات التعليميه والخدميه ترحب بكم وتتمنى لكم الافاده والاستفاده
منتديات التعليميه والخدميه
أهلا بكم زائرنا الكريم: منتديات التعليميه والخدميه ترحب بكم وتتمنى لكم الافاده والاستفاده
منتديات التعليميه والخدميه
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات التعليميه والخدميه

برامج كمبيوتر حديثه - دروس تعليميه - ستايلات - فلاش - سويش ماكس - واجهات برامج حمايه - مسلسلات - افلام - ايقاعلت - ميكسات - طربيات
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 هيغل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سينشي

هيغل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ Default6
سينشي


عدد المساهمات : 892
تاريخ التسجيل : 14/02/2009

هيغل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ Empty
مُساهمةموضوع: هيغل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ   هيغل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ Emptyالثلاثاء أكتوبر 23, 2012 11:06 pm



يعد
الفيلسوف الألماني جورج ويلهلم هيغل (1770-1831) واحدا من أكبر الفلاسفة
الذين أنجبتهم البشرية. وهو من دون شك أكبر فيلسوف مثالي في تاريخ الفلسفة،
كما أنه صاحب كثير من النظريات المشهورة في فلسفة التاريخ والمجتمع
المدني، فضلا عن منطقه الجدلي وآرائه في علم الجمال وغيرها الكثير. ويتعدى
تأثير هيغل الفلسفة المثالية ليشمل عموم الفلسفة الإنسانية. فمثالية هيغل
هي التي أوجدت مادية ماركس والفلسفة الظواهرية لهوسيرل، فضلا عن تأثيرها في
الفلسفة الوجودية.
درس
هيغل الفلسفة وعلوم اللاهوت، وكان لعلم اللاهوت تأثيره الكبير على مجمل
أفكار هيغل الفلسفية. وقد تبينت آثار علوم اللاهوت خصوصا في الكتابات
الأولى لهيغل والمتعلقة خاصة بتاريخ المسيحية وحياة المسيح وروح المسيحية
ومصيرها.
تأثر
هيغل في مطلع حياته بأفكار الثورة الفرنسية، وكان شديد الترحيب بها؛ لكنه
أزاح عن عينيه غطاء الإعجاب بها بعد مجيء اليعقوبيين إلى سدة الحكم وانتشار
المجازرعلى أيديهم في أرجاء فرنسا. مع ذلك فإن هيغل أبدى تأييدا منقطع
النظير للقائد الثوري نابليون بونابرت، معتبرا إياه التجسيد الحي للعقلانية
في التاريخ والصياغة الأرقى لفكر الثورة الفرنسية.
على
الرغم من كل ذلك، فإن هيغل الفيلسوف يبدو نقيضا مختلفا لهيغل الإنساني
المتحرر. فقد صاغ هيغل فلسفة محافظة، مبديا تأييده الكامل للدولة الملكية
البروسية، مما حدا بكثير من النقاد إلى اعتبار ذلك هو التناقض الرئيس في
الفكر الهيغلي، الذي تأرجح -كما هو واضح- بين نزعة ثورية مكبوتة وفكر شبه
رجعي معلن.
لا
يتردد أكثر الكتّاب عن نعت هيغل بـ(الفيلسوف) ويضعونه إلى جانب أكبر
الفلاسفة في التاريخ، بل يذهب بعض معجبيه إلى حد القول بأن (هيغل في أصل كل
كبير في الفلسفة منذ قرن).
لكن
بعضهم الآخر يهاجمه بعنف، ناعتا إياه بأنه مجرد (كلب فاطس) وبأنه (أكبر
خطأ في تاريخ الفلسفة)(1). وربما يعود سبب هذا الاختلاف في تقييم هيغل إلى
طبيعة التركيبة الفلسفية ذات الصياغة الصعبة التي طرحها هيغل وإلى اللغة
المعقدة التي كتب بها هيغل فلسفته.
ويقر
برتراند رسل -وهو الفيلسوف ومؤرخ الفلسفة الشهير- بصعوبة فلسفة هيغل؛ بل
إنه يذهب أبعد من ذلك للقول بأن هيغل هو الأكثر صعوبة على الفهم من بين كل
الفلاسفة الكبار. وأكثر أعمال هيغل صعوبة -من دون شك- هو كتابه المبكر
(ظاهريات العقل) الذي ينُظر إليه حتى من جانب الماركسيين، الخارجين من رحم
الهيغلية -والذين هم من أشد المعجبين بهيغل وإن كانوا من أكثر نقاده- على
أنه أكثر أعمال هيغل صعوبة(2).
وإذا
كانت لغة هيغل قد أثارت حفيظة النقاد والمفكرين، فإن أفكاره ما تزال تثير
وبشكل أكبر شهية هؤلاء الناقدين للكتابة عنها سلبا وإيجابا. ولعل من أكثر
الأفكار التي أثارت حفيظة المفكرين تجاه هيغل ما طرحه الأخير بخصوص
الديمقراطية؛ فهيغل لا يناصر الديمقراطية ولا الليبرالية، انطلاقا من فكرته
بأن الحرية يمكن أن تتحقق في المجتمع تلقائيا من خلال القوانين والقيم
التي تنظم تصرفات الفرد وتوجهها. إن هيغل يتطابق هنا تماما مع نظرية
الإرادة العامة التي طرحها روسو، والذي قال صراحة بأن الحرية تتحقق فقط من
خلال مجتمع يسهم كل فرد منه في صياغة قانونه(3).
كما
أن هيغل قد تعرض للنقد بسبب موقفه المتناقض من المسيحية؛ فهو من ناحية
انتقد المسيحية صراحة؛ لكنه من جهة أخرى مال إلى جهة البروتستانتية على
حساب الكاثوليكية، على اعتبار أن الأولى أقرب للعقل والروح الإنسانية. ليس
هذا فحسب بل إن البروتستانتية -وفقا لهيغل- هي ألمانية، وهي أعلى شكل من
أشكال المسيحية، وأن الشعب الألماني يمتلك من الخصائص ما يؤهله للرقي
بالمسيحية إلى أرقى أشكالها.
لقد
قادت هذه الفكرة الأخيرة هيغل إلى وضع تصنيف للعالم الجرماني، قسم على
أساسه الشعوب الأوروبية إلى شعوب ألمانية خالصة، تضم الألمان
والاسكندينافيين والهولنديين إضافة إلى الإنجليز. وتضم المجموعة الأخرى
-وهي المجموعة الرومانية- كلا من الفرنسيين والإيطاليين والإسبانيين. ولأن
العالم الجرماني قد استطاع الرقي إلى مرحلة أعلى من خلال البروتستانتية،
فإنه لا حاجة به إلى ثورة مسلحة على غرار ما قام به الفرنسيون(4).
مراحل التاريخ الإنساني
يضع
هيغل تقسيمه للتاريخ البشري استنادا إلى الفكرة السابقة، ويرسم هيغل من
خلال كتابه (محاضرات في فلسفة التاريخ) الملامح العامة التي تحكم سير
التاريخ، ابتداء من أول حضارة عرفتها الإنسانية حتى زمن هيغل.
بدأ
هيغل بإلقاء دروسه عن فلسفة التاريخ في العام 1822م، وانتهت هذه الدروس مع
نهاية حياة هيغل في العام 1831م. من هذه الزاوية، يمكن النظر إلى هذا
الكتاب على أنه يمثل قمة النضوج الفكري لهيغل، على عكس بعض كتبه التي اتسمت
بعدم الوضوح والغموض، أو تلك التي كتبت في فترة مبكرة، وكانت متأثرة كثيرا
بنزعته الدينية، التي ظلت مع ذلك راسخة وتطبع حتى كتابه محط الدراسة.
يقسم
هيغل التاريخ إلى ثلاثة أطوار رئيسة؛ تلك هي: الطور الآسيوي وميزته
الأساسية هي النظام الملكي الاستبدادي، ثم يعقبه الطور اليوناني الروماني
الذي يتميز بالحرية الفردية، وأخيرا الطور الجرماني، الألماني، الذي يجمع
فضائل الطورين السابقين ويتسم بنظام الحكم الملكي. يضم هيغل تحت الطور
الأول كل الحضارات الآسيوية الممتدة من أقصى الصين والهند إلى حضارات
الفراعنة والآشوريين والبابليين والفرس. كما يجمع تاريخ اليونان والرومان
تحت الطور الثاني لينتهي به إلى الطور الثالث وهو المرحلة الجرمانية.
إن
المرحلة الأولى تمثل ما يسميه هيغل (طفولة التاريخ)؛ حيث تعمل الحرية على
(تطوير نفسها دون أن تصل إلى مرتبة الحرية الذاتية)، بينما يشبه المرحلة
اليونانية بـ (المراهقة)، حيث (نجد فرديات تتشكل) ليصل التاريخ رجولته في
(الدولة الرومانية)، التي لا تمثل (ترديدا لدولة الأفراد التي كانت عليها
دولة المدينة في أثينا). ويتكامل هذا النمو الإنساني، متجسدا في العالم
الجرماني، الذي يشبه (مرحلة الشيخوخة)، لكن هذه الشيخوخة لا تعني (الضعف
والهرم، فإن شيخوخة الروح تعني نضجها وقوتها الكاملة)(5).
يبدو
واضحا من خلال هذا التقسيم تأثير النزعة القومية الألمانية على فكر هيغل؛
فهيغل يجعل الطور الجرماني وحدة قائمة بحد ذاتها على غرار الطورين
السابقين، علما أن الطور الجرماني لا يماثل الفترتين السابقتين لا من ناحية
التنوع ولا من جهة الفترة الزمنية التي شغلها كل طور. إن هيغل يتحول هنا
من فيلسوف للتاريخ إلى منظر قومي في خدمة المملكة البروسية.
فالطور
الجرماني لم يتجسد عمليا بشكل تاريخي. وهذا بحد ذاته يمثل انتكاسة كبيرة
توازي الزعم الفلسفي الماركسي النبوئي بنشوب الثورة العمالية في أوروبا
الغربية الرأسمالية، الأمر الذي لم يحصل عمليا إلا في روسيا البلد الزراعي
المتخلف صناعيا، والذي كان خارج حسابات الماركسية. كذلك فإنه إذا كان ممكنا
الحديث عن حضارة غربية أسهم الألمان مثلما أسهم الفرنسيون والإنجليز في
بنائها، فإنه لا يمكن الحديث عن طور حضاري ألماني، متميز بملامح خاصة عن
بقية الشعوب الأوروبية، علما أن مثل هذا الادعاء مرفوض من قبل الأوروبيين
أنفسهم الذين يتحدثون عن حضارة أوروبية، أو غربية، لا عن حضارة أمريكية أو
فرنسية أو ألمانية.
لكن
هذا ليس النقد الوحيد ولا الأهم الذي يمكن أن يوجه إلى هيغل. بل ربما كان
هذا هو أقل الانتقادات أهمية، بالمقارنة مع الأفكار الأخرى التي تضمنها
كتاب هيغل الأهم في فلسفة التاريخ المعروف بـ (محاضرات في فلسفة التاريخ).
ولعل نظرة هيغل إلى الحضارات الشرقية والشرق بوجه عام تستحق وقفة طويلة،
لما قدمه هيغل من أفكار ووجهات نظر بخصوصها.
إن
قراءة أفكار هيغل بخصوص الشرق مهمة، ليس لجهة منظِّرها فحسب (وهو واحد من
أكبر فلاسفة الغرب ومازالت أفكاره محل تقدير كبير لدى مفكري الغرب، وربما
كانت أطروحة فوكاياما في نهاية التاريخ مثالا أحدث على كيفية إعادة صياغة
وتنويع أفكار هيغل)، بل بشكل أخص لجهة تأثيرها في صياغة النسق الفكري العام
والتصورات الجاهزة عن الشعوب الأخرى، وهو ما يدخل في صميم النسق
الاستشراقي.
إن
هذه الدراسة تعنى تحديدا بقراءة أفكار هيغل بخصوص الحضارات الشرقية عموما،
وإلقاء الضوء على المنهج النقدي الهيغلي، مع إيلاء عناية خاصة للغة
الهيغلية. كذلك تحاول هذه الدراسة تتبع المرجعية الفكرية التي انطلق منها
هيغل، والمصادر التي صاغت الخطاب الهيغلي، من أجل تكوين تصورعام عن الفكر
القبلي الذي طبع التقييم الهيغلي.
هيغل وتاريخ الشرق
لا
يقدم هيغل عرضا مفصلا لتاريخ الحضارات الإنسانية، فذلك ليس موضوع الكتاب.
لكن هيغل يحاول إعطاء المبادئ العامة التي وجهت الحضارات البشرية في سيرها
الحثيث نحو التقدم والرقي. وهيغل إذ يعرض لمسيرة الإنسانية ضمن ما يسميه
بالتاريخ الفلسفي، فهو يؤكد أن (الفكرة الوحيدة التي تجلبها الفلسفة معها
وهي تتأمل التاريخ، هي الفكرة البسيطة عن العقل، التي تقول: إن العقل يسيطر
على العالم، وإن تاريخ العالم -بالتالي- يتمثل أمامنا بوصفه مسارا
عقليا)(6).
بهذا
المعنى فإن الفكر هو الذي يوجه التاريخ الإنساني وليس أي شيء آخر. إن هذه
الفكرة التي يعطيها هيغل أسماء مختلفة فهي (الإرادة) و(العقل) و(الروح
الإنساني) فضلا عن (الإرادة الإلهية) تمضي قدما في حركة التاريخ لتصنع
أقدار الشعوب والحضارات صعودا ونزولا. إن الموضوعة الرئيسة التي تكمن خلف
هذا السعي الحثيث للإنسانية هي تقدم الحرية.
لكن
تأكيد هيغل على دور (العقل) أو (الإرادة) – وهو التأكيد الذي طبع فلسفته
المثالية بصورة عامة- لم يجعله يغفل عن دور العوامل الأخرى وإن بشكل أقل
مقارنة بالمفكرين الآخرين (مونتسيكيو اوكوندرسيه مثلا). وهكذا فإن هيغل
يميل إلى الاعتقاد بأن هناك علاقة وثيقة بين تاريخ مسيرة أي حضارة بطبيعتها
الجغرافية التي تنشأ عليها؛ ذلك أن الأخيرة (شيء جوهري وأساسي)(7).
هناك
شبه اتفاق بين المؤرخين على أن تاريخ الحضارة الإنسانية يبتدئ في الشرق.
وسواء اختلف الكتاب أم اتفقوا بشأن أقدم الحضارات الشرقية، فإنهم أقرب إلى
الإجماع على أن الشرق هو مصدر الحضارة الإنسانية عامة.
ولا
يخرج هيغل على هذا الإجماع، لذلك فإنه يفتتح محاضراته عن فلسفة التاريخ
بالشرق. والشرق عند هيغل يعني تحديدا آسيا. فآسيا (تمثل الجهة الشرقية من
جهات الكرة الأرضية- أي أنها منطقة الأصل والمنشأ). وآسيا (بالمثل، هي
الشرق المطلق). ورغم أن هيغل يعتمد على التقسيم الجغرافي المشهور، والذي
يجد مايبرره، لكن التقسيم الحضاري التاريخي هو الذي يدفع هيغل إلى اعتماده
بشكل أساسي. فالشرق هو مهد الحضارة الإنسانية من دون شك. ففي آسيا (أشرق
ضوء الروح، ومن ثم بدا التاريخ الكلي)(Cool.
بهذا
المعنى فإن هيغل ينطلق من التاريخ الأقدم إلى الأحدث. والأقدم هو الشرق-من
دون شك- بينما الأحدث هو تاريخ أوروبا وأمريكا، التي يشير إليها هيغل
برؤية نبوئية رائدة على أنها تمثل (أرض المستقبل… فها هنا سوف يتكشف في
العصور القادمة عنصر هام من عناصر تاريخ العالم، وربما كان ذلك على شكل
نزاع بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، إنها بلاد الأحلام لكل أولئك
الذين ملوا وضجروا من مخزن الأسلحة التاريخي في أوروبا القديمة)(9).
لكن
هيغل -وهنا المفارقة- لا يسير في تقسيمه وفقا للمنطق التاريخي المعروف؛ إذ
هو لا ينتقل من الأقدم إلى القديم إلى الأحدث كما يفترض ذلك التقسيم
التاريخي. إن هيغل يضع تقسيما فلسفيا قبليا يبدأه بالصين فالهند ثم فارس
التي يضم تحتها حضارات وادي الرافدين (بابل وآشور) والحضارة المصرية
فالفينيقية، ثم ينتقل من ذلك إلى اليونانية والرومانية وأخيرا ينتهي بالطور
الجرماني.
إن
تقسيم هيغل هذا لا يستند إلى كشوفات تاريخية مختلفة عما هو سائد. كل ما في
الأمر إن هيغل يبني مقدمة افتراضية نظرية، يحاول من خلالها لي عنق التاريخ
الإنساني؛ لكي يبدو متطابقا ومتسقا مع التقسيم الذي اختطه لهذا الغرض. إن
هذا التقسيم يتجاوز واقعا تاريخيا ثابتا لايقبل الشك؛ بل إنه يقلب حقائق
تاريخية مؤكدة. إن هذا التقسيم التاريخي لا يرتكب خطأ تاريخيا فحسب بل هو
يقلب الحقيقة التاريخية المشهورة من أجل إثبات النظرية حول تطور فكرة
الحرية لدى الحضارات المتتابعة. إنه بالتالي لا يمثل هفوة عابرة بل خطأ
منهجياً متعمداً، لا يمكن المرور به عرضا.
هيغل والحضارات الشرقية: الصين
كما
قلنا فإن هيغل يبتدئ من الصين معتبرا اياها أقدم إمبراطورية يسجلها
التاريخ. ويذهب هيغل إلى حد القول: إننا (نرى الصين منذ فجر التاريخ على
تلك الحال التي هي عليها في يومنا الراهن)، أي إلى زمن هيغل في بداية العقد
الثالث من القرن التاسع عشر(10).
يرى
هيغل أن الصين تملك سلسلة من (كتاب التاريخ) بعكس بقية الحضارات أو
(الشعوب الآسيوية) التي كانت تملك تراثا قديما (لكن لم يكن لها تاريخ،
فعقائد الفيدات الهندية ليست تاريخا، وتقاليد الأعراب وعاداتهم قديمة جدا
لكنها لم ترتبط بتنظيم دولة وتطورها)(11).
ومن
الواضح فإن المبررات التي يوردها هيغل ليست علمية ولا مقنعة. فتاريخ
الساميين والسومريين والمصريين أكثر قدما من الحضارة الصينية، وعدم معرفة
هيغل بها لا يبرر تجاهلها، أو إنكارها. كما أن استنتاجه بشأن عدم امتلاك
العرب (هيغل يستخدم كلمة الأعراب) لتاريخ موثق أو تراث مكتوب يدل على جهل
فاضح بالفكر العربي كما سنتبين ذلك.
يعتقد
هيغل أن الصينيين (ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ينتمون إلى أسرهم أو
عائلاتهم وعلى أنهم في الوقت نفسه أبناء للدولة.. وليس لهم في الدولة كذلك
شخصيات مستقلة؛ لأن العلاقة الأبوية البطرياركية هي السائدة)(12)، وهذا
النموذج البطرياركي ليس علامة فارقة في الحضارة الصينية فحسب. فكل الحضارات
الأخرى كالحضارة البابلية والفرعونية كانت ذات سلطات بطرياركية. وربما
تمثل الحضارة الإسلامية استثناء واضحا. فالدولة الإسلامية لم تكن دولة
أبوية. والخليفة أو السلطان لم يكن يحكم بالمعنى الأبوي حتى وإن كان يملك
سلطات قسرية مرغمة في كثير من الأحيان. لكن هيغل يذهب إلى رأي آخر، قائلا:
إن (هذا الاهتمام الأبوي من جانب الإمبراطور وروح رعاياه بوصفهم أطفالا
لايستطيعون أن يتعدوا المبدأ الأخلاقي لمحيط الأسرة ولا أن يظفروا لأنفسهم
بأية حرية مستقلة ومدنية – يجعل من هذا الكل إمبراطورية وحكومة وسلوكا،
يكون في الوقت نفسه أخلاقيا وواقعيا تماما، أعني أنه نتاج للفهم بلا عقل حر
ولا خيال حر)(13).
يعترف
هيغل بتقدم الحكم وعدالته في الصين، حيث (نجحت الصين في أن تحصل على أفضل
وأعظم الحكام الذين يمكن أن ينطبق عليهم تعبير (حكمة سليمان))، كما يقر
هيغل بأن الصينيين كانوا يشعرون بالمساواة، لا فرق بينهم تماما (باستثناء
الإمبراطور)، (ولهذا السبب فكثيرا ما وقفت الدولة الصينية كمثل أعلى يصلح
أن يكون نموذجا يحتذى حتى بالنسبة لنا)، فالصين (هي دولة المساواة
المطلقة)؛ رغم كل هذه الاعترافات التي يقر بها هيغل فإنه يصل إلى استنتاج
غريب لا علاقة له بهذه الحقائق؛ حيث يرى أنه (ما دامت المساواة منتشرة في
الصين لكن بلا أدنى حرية، فإن الحكم المطلق المستبد هو بالضرورة شكل الحكم
هناك)(14).
إن
هيغل يقع في تناقضين كبيرين؛ فهو من جهة يقارن بين الصين القديمة وبين
أوروبا القرن الثامن عشر، وهذه المقارنة الخاطئة بشكل كلي سيكررها هيغل
مرات عديدة فيما يخص تواريخ الحضارات الأخرى (الإسلام كمثال آخر)؛ ذلك أنه
إذا كانت لا تصح المقارنة بين أوروبا القرن الثامن عشر وأوروبا القرن
العشرين، فكيف تصح المقارنة بين الصين قبل أكثر من ألفي عام (على سبيل
المثال)، وبين أوروبا القرن الثامن عشر؟
كذلك
فإن هيغل -وهذا هو التناقض الثاني- يغمض عينيه عن حقيقة الوضع المأساوي
الذي كانت تعيشه دول أوروبا نفسها في ذلك الوقت، حيث كانت الدكتاتوريات
المطلقة تستلب حقوق الأفراد والشعوب بشكل لا نجد له نظيرا في الصين
القديمة، التي يعترف هيغل نفسه بمدى سيادة العدالة فيها.
وحين
يتناول هيغل معالجة نظام التشريع في الصين، فإنه يكرر وصفه الذي تقدم وهو
كون مبدأ الحكومة أبوية بطرياركية. وهو يرى أن قوننة العلاقات من خلال
التشريعات (قد طمس تماما الإحساس الحر). بينما يأخذ على هذه التشريعات
تضمنها عقوبات قاسية(15).
وهذا
النقد الهيغلي لايبدو متماسكا، خصوصا لجهة صدوره من فيلسوف أيد النظام
(الدولتاني) بشكل مطلق؛ حتى نعت بأنه من أكبر المنظرين للدولة القومية
البروسية. لقد كان هيغل من أكبر المنظرين لسيادة قوانين الدولة، بحيث أفقدت
هذه القوانين -بحسب منظرين كبار- معنى الحرية التي يتمتع بها المواطن. من
هذا المنطلق ذاته يمكن المحاججة بأن نظام العقوبات الصيني القديم -(وكذلك
القوانين والعقوبات في الدول الأوروبية الحديثة)- هو الذي ضمن بناء دول
قوية، ما دامت هذه القوانين واضحة ويتم تطبيقها بعدالة ومن دون محاباة، أو
تمايز، مع مراعاة المساواة.
يشير
هيغل إلى أن الصين نجحت في نشر القوانين العادلة بشكل كبير، لكنه يوجه
سهام نقده -من جهة أخرى- تجاه نظام العقوبات البدنية في الصين، محاججا بأن
(الصينيين لم يعرفوا ذاتية الكرامة، فهم رعايا يخضعون للتأديب والتربية
أكثر من من خضوعهم للعقوبة، كما هي الحال بالنسبة للأطفال عندنا؛ لأن
التأديب يستهدف الإصلاح، أمّا العقوبة فهي تعني الاتهام الحقيقي بارتكاب
الخطأ)(16)، ويضرب هيغل أمثلة على ذلك بالعقوبات التي كان ينزلها الأب
الصيني بولده، وكذا العلاقات بين الإخوة. إن هيغل إذ يلاحظ من جهة رقي
العلاقات الأسرية بين الرجل والمرأة؛ حيث (لا يمكن أن نعثر على خيانة زوجية
إلا نادرا جدا بسبب العزلة المضروبة على النساء)، فإن هذه الفضيلة لدى
الصينيين تستبطن لدى هيغل علة سلبية. فعدم انتشار الزنا لا يفسر إلا
بانعدام الحرية عند النساء الصينيات، وكأن حقوق النساء الأوروبيات قد أقرت
منذ مجيء السيد المسيح، لا في النصف الأول من القرن العشرين.
يبدي
هيغل عدم فهم كامل لأخلاق الصينيين وعاداتهم؛ فهو مثلا يقول عنهم بأنهم
(حساسون ضد الإهانة إلى أقصى درجة وأنهم ذوو طبيعة انتقامية. ولكي يشبع
الشخص المهان انتقامه فإنه لا يغامر بقتل غريمه وإلا فإنه يلجأ إلى قتل
نفسه لكي يدمر خصمه)(17)، ويصف هيغل الصينيين بكلمات أقل ما يمكن القول
عنها: إنها بعيدة عن الكرامة الإنسانية؛ ليخلص إلى أن (الشعور بالإذلال
والمهانة هو الشعور السائد، وما أسهل أن يتحول إلى شعور بالضعة والانحطاط).
ثم يمضي أكثر ليعلن أن الصينيين (مشهورون بالخداع حيثما استطاعوا، فالصديق
يخدع صديقه ويغشه دون أن يستاء أحد أو يمتعض من محاولة الغش التي يقوم بها
الآخرون إذا لم تؤد الخدعة غرضها… حتى إنه يتحتم على الأوروبيين أن
يحترسوا جدا في تعاملهم معهم)(18).
إن
هيغل لا يقدم هنا أي مستوى من الفهم لطبيعة الثقافة الصينية التي تقوم على
أساس كرامة الفرد. إن هذه الأمثلة القليلة تكشف عن تحامل واضح تجاه
الثقافات غير الأوروبية التي تتميز بقيم وعادات مختلفة عن نظيرتها
الأوروبية. إن مقارنة هيغل بهذا الخصوص بالرحالة أو المؤرخين المسلمين
والعرب القدماء -على سبيل المثال- تكشف عن بون واسع لصالح المؤرخين العرب
والمسلمين. إن المؤرخين العرب والمسلمين مثل اليعقوبي أو صاعد الأندلسي أو
البيروني قد كتبوا صفحات رائعة عن الفرس، والصينيين، والهنود وباقي الشعوب
الأخرى. لقد نظر المؤرخون العرب والمسلمون إلى هذه الأمم من خلال منظار
التمايز الحضاري، ولم ينطلقوا في تقييمهم من خلال عقدة دينية أو عنصرية.
وعلى الرغم من أن العرب رأوا أنفسهم متمايزين، انطلاقا من العقيدة
الإسلامية، فإن هذه النظرة لم تعكس أي استهانة أو تقليل من قيمة الشعوب
الأخرى. وقد لاحظ احد الباحثين المعاصرين (أن نظرة الحضارة
العربية/الإسلامية إلى تمدن الشعوب وتحضرها كانت تتقبل الاختلاف الديني
وحتى الديانات الوثنية للصينيين والهنود)(19).
يأخذ
هيغل على الصينيين اعتقادهم بخرافات (لا حصر لها)، معللا ذلك بافتقار
الصينيين إلى (الاستقلال الذاتي الذي يفترض مقدما العكس المضاد تماما لحرية
الروح)(20)، والحق أن هذا انتقاد بعيد عن الموضوعية مثلما يتسم بالنظرة
الدونية للآخر؛ ذلك أن كل الحضارات العظيمة -والصينية واحدة منها- تنطوي
على خرافات وأساطير كثيرة. والحضارات التي تفتقر إلى مثل هذه الخرافات
والأساطير لا تنطوي على عراقة. إن حضارات بلاد ما بين النهرين والحضارة
الفرعونية والفارسية فضلا عن الحضارة الصينية والهندية قد عرفت خرافات
وأساطير كثيرة. وقد امتزجت هذه الخرافات والأساطير بعلوم وآداب هذه
الحضارات كما صاغت تعاليمها وطقوسها الدينية والحياتية. وليس من الحكمة
التقليل من شأن هذه الخرافات من خلال منظار العلوم التي سادت أوروبا في
مطلع العصور الحديثة. بل يمكن القول: إن الأساطير والخرافات هي التي ولدت
في كثير من الأحيان النزعة العلمية في الحضارات القديمة، كما هو حال علوم
الفلك عند البابليين، ومن ثم عند الفرس وكذا عند الهنود أو في الحضارة
العربية الإسلامية.
كذلك
فإن من العجيب أن يأخذ هيغل على الصينيين ولعهم بالخرافات والأساطير، في
حين كان الألماني -وحتى زمان هيغل- يعيش في ظل خرافات لا حصر لها. يقول
هاينريش هاينه (الذي تتلمذ لفترة قصيرة على يد هيغل وهجره بعد أن وصفه
ساخرا بأنه يحب تدريس الطلاب الذين لا يفهمونه) بأنه في ألمانيا تحديدا،
(ربما يبقى ذلك الإيمان الشعبي الخاطئ المقلوب زمنا أطول مما ستبقى
المسيحية في ألمانيا، هذه المسيحية التي لم تضرب في جذورها في تربة الوطن
كما ضرب الإيمان الشعبي جذوره. وفي عصر الإصلاح الديني سرعان ما زال
الإيمان بقصص القديسين الكاثوليكية. على أن الإيمان بالسحر والشعوذة لم يزل
ولم ينعدم إطلاقا). ويمضي هاينه ليؤكد وهو -المعجب بلوثر- بأن لوثر نفسه
ربما لم يعد يؤمن بالمعاجز الكاثوليكية، على أنه لا يزال يؤمن بالجن
والشياطين)(21).
إن
موقف هيغل السابق يرتبط أيضا بموقفه من العلوم عند الصينيين. فهيغل يتخذ
موقفا متناقضا وغريبا برغم اعترافه بتقدم الصينيين وتفوقهم في العلوم؛
فهيغل وعلى الرغم من اعترافه بتلقي العلوم (التشجيع والتقدير العاليين)،
فإنه يستدرك سريعا بأن هذه العلوم كان (ينقصها من ناحية أخرى الأساس الحر
للذاتية، والاهتمام العلمي الحقيقي الذي يجعل منها عملا نظريا، فلا مجال
هنا للمملكة الروحية الفكرية الحرة، وما يمكن أن نطلق عليه وصف علمي هو هنا
ذو طبيعة تجريبية فحسب يخدم أساسا منفعة الدولة: حاجاتها ومتطلباتها)(22)،
كذلك يعزو هيغل ضعف العلوم عند الصينيين إلى طبيعة اللغة الصينية، التي
تشكل (عقبة كبرى أمام تقدم العلوم وتطورها). كذلك يأخذ هيغل على الصينيين
تخلفهم في علوم الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك، برغم (شهرتهم السابقة في
هذه العلوم. فقد عرفوا أشياء كثيرة في وقت لم يكن الأوروبيون فيه قد
اكتشفوا هذه الأشياء؛ لكنهم لم يفهموا كيف يطبقون هذه المعرفة، فاكتشفوا
مثلا حجر المغناطيس وفن الطباعة)، ويشير هيغل إلى أن الصينيين برغم
اختراعهم البارود قبل الأوروبيين، فإن اليسوعيين (كانوا أول من علمهم صنع
المدافع)؛ لكن هيغل يأحذ على الصينيين استكبارهم (أن يتعلموا أي شيء من
الأوربيين، رغم أنهم كثيرا ما يعترفون بتفوق هؤلاء الأوروبيين عليهم… وعلى
العكس من ذلك فإن الأوروبيين أيضا -بسبب ذكائهم- ليسوا قادرين على محاكاة
مهارة الصينيين الصناعية ومهارتهم الطبيعية التامة)(23).
إن
موقف هيغل من علوم الصينيين يبدو غير مفهوم ولا مقنع تماما؛ ذلك أن كل
العلوم إنما تنشأ عن حاجة عملية. ولذلك ففي الوقت الذي طور الصينيون الورق
والبارود والحبر واخترعوا البوصلة فضلا عن إبداعاتهم في الطب وتفننهم
الراقي في الصناعات الدقيقة الأخرى، تلبية لحاجاتهم العملية، فإن علوم
أوروبا في عهد الإيطالي دافنشي لم تستند إلا إلى تجارب نظرية محدودة لا
ترقى إلى العلوم الصينية بأي شكل من الأشكال. لذلك لم تتحول العلوم في
أوروبا إلى الشكل المتطور الحديث إلا بعد ارتباطها بالثورة الصناعية
البازغة، في إنجلترا أول الأمر، ومن ثم في بقية دول أوروبا الغربية،
وأمريكا تاليا. إن حاجة الإنسان لاستخدام المصادر المتوفرة بين يديه هي
التي تدفعه للاختراع. وهذه النزعة العلمية لا يمكنها أن تولد من دون تشجيع.
وهكذا فقد طور الصينيون قبل الأوروبيين أساليب علمية راقية ونجحوا في
إنشاء صناعات لم يكن للأوروبيين أي حظ منها حتى القرن السابع عشر. أما
مقارنة موضوع كيف تطورت العلوم في أوروبا بعد ذلك وكيف أصابها الركود في
الصين، فذلك شيء آخر مختلف تماما. إن هيغل هنا كأي شخص محدود الأفق يحاجج
بزعمه أن العرب مثلا لا يملكون صناعات متطورة على غرار ما تمتلكه الدول
الغربية المتقدمة الحديثة في عالم اليوم، وبالتالي فهم لا يملكون أي معنى
أو فهم لمعنى الحضارة. إن تخلف العرب أو المسلمين في الوقت الحاضر لا ينفي
الحقيقة التاريخية الراسخة التي تؤكد أنهم استطاعوا بناء حضارة كبيرة في
وقت كانت فيه أوروبا ما زالت تتلمس طريق الخروج من النفق المظلم الطويل.
يختتم
هيغل تقييمه للمجتمع الصيني بعبارات مليئة بالاستصغار؛ فإذا (كان
الإمبراطور يتحدث إلى الشعب باستمرار بجلال وبرقة وعطف أبوي فإن الشعب ليس
لديه عن نفسه إلا أسوأ مشاعر الذاتية، فهو يعتقد أنه لم يولد إلا ليجر
مركبة السلطة الإمبراطورية)(24).
إن
أمثال هذه التوصيفات والمغالطات والمحاججات البلاغية الهيغلية لا تكشف عن
جهل بالحقائق التاريخية، ولا يمكن تفسيرها برقي النموذج الأوروبي عن نظيره
الشرقي؛ بل تعود أساسا إلى انعدام القراءة التاريخية الصحيحة، فضلا عن غياب
التقييم الواقعي للحقائق التاريخية الموجودة على أرض الواقع من خلال وضعها
في السياق المقارن. إن الصورة النمطية التي هيمنت على فكر هيغل لا تفسح
إلا مجالا قليلا لظهور الرأي التاريخي المدعم بالشواهد التاريخية. فالصورة
النمطية للصين -والتي تعود إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة- تختلط لدى هيغل
برحلات ماركو بولو (المشكوك في صحتها أصلا)، والتي يراها هيغل موثقة تماما،
فضلا عن كتابات الدبلوماسيين أو البحارة الأوربيين الذين زاروا الصين
والذين كانوا مكروهين إلى حد كبير من الصينيين كما يعترف هيغل نفسه بذلك.
هيغل والحضارة الهندية
إن
المجتمعات الشرقية -بحسب هيغل- هي مجتمعات جامدة، وصورة أيٍّ منها لم
تتبدل عما كانت عليه الحال قبل آلاف السنين، وهكذا فالهند لا تختلف عن
الصين، (وقد ظلت ساكنة ثابتة واكتمل تكوينها في الداخل أعظم تكوين)(25).
يحدد
هيغل منذ البدء (خصائص الروح الحالمة بوصفها المبدأ العام للطبيعة
الهندية)(26)، إن نتيجة هذا المبدأ أن (الفرد في حالة الحلم يكف عن أن يكون
واعيا بنفسه بما هو كذلك بحيث يقدر على التفرقة بين ذاته وبين الموجودات
الموضوعية)، ويرى هيغل أن تاريخ الهند يكشف عن أن شعب الهند لم يقم بأي
(فتوحات خارجية، لكنه هو نفسه كان ميدانا للغزو الخارجي باستمرار)، من هذا
يصل هيغل سريعا إلى استنتاج مفاده أن (القدر المحتوم للإمبراطوريات
الآسيوية أن تخضع للأوروبيين)(27).
إن
هذا الادعاء السابق يكشف عن عقلية تبشيرية واستعمارية صريحة، لا تتخفى
وراء الكلمات. بالعكس إنها توظف الفكر والكلمات من أجل إيجاد المبررات
للغرب المسيحي كي يمضي في حروبه الاستعمارية لإكمال المهمة الملقاة على
(كاهل الرجل الأبيض). ولا غرابة في ذلك فقد امتزجت الدعوات الاستعمارية
التي انتشرت في دول أوروبا خلال القرون الممتدة بين الخامس عشر وحتى التاسع
عشر مع نزعات قوية تبشيرية تدعو إلى ضرورة إنجاز مهمة تحرير هذه الشعوب من
التخلف والجهل والوثنية التي ترسف فيها. لقد قضت إسبانيا على حضارة
الازتيك ودمرتها تدميرا كاملا، حيث وجد الأسبان هناك شعبا يمارس طقوسا
دينية وثنية غارقة في الدموية، مما جعل تلك الحروب تأخذ صفة استئصالية. لقد
نظر المفكر الغربي إلى الشعوب الأخرى من هذا المنظار المسيحي المتدين.
فهذه الشعوب الوثنية لاتملك ديانات سماوية، وبالتالي يمكن تبرير الحروب من
أجل تحريرها من وثنيتها من خلال استعمارها وإرشادها إلى الديانة الجديدة.
في هذا الإطار وحده يمكن فهم بعض التصورات الأوروبية عن الإسلام. فوفقا
لهذا التصور يقدم الإسلام كدين وثني، مليء بتقاليد متخلفة (تعدد الزوجات،
الحريم والإماء، حب الحرب..). إن هذا التصور وحده يستطيع أن يبرر حربا
استعمارية (مشروعة).
يعرض
هيغل لتقسيم المجتمع الهندي بطبقاته وطوائفه وتمايزاته الاجتماعية، حيث
تحولت هذه الطبقات إلى واقع متحجر وصلب يصعب العبور فوقه. إن نظام الطبقات
الهندي يشكل تمايزا مهما لا يمكن مقارنته بما هو عليه الحال في المجتمعات
الأخرى؛ ذلك أنه يمكن أن توجد مثل هذه التقسيمات (في كل دولة عقلانية)؛ لكي
يصل الإنسان من خلال عمله وسعيه إلى تحقيق ذاته، لكن أن تتحجر التقسيمات
الطبقية إلى واقع حجري غير قابل للحراك فذلك من ميزات المجتمع الهندي(28).
إن
نظام الطبقات الهندي يؤثر تأثيرا حاسما وقاطعا في تشكيل البنى السياسية
فضلا عن الأفكار الدينية للمجتمع الهندي. حيث تصبح (لكل طائفة واجباتها
وحقوقها الخاصة، ومن ثم فالواجبات والحقوق ليست للإنسان بصفة عامة، ولكنها
تتعلق بطائفة معينة)(29). إن الدين أو الأديان -إن صح التعبير- صاغت
بمفاهيمها أنظمة القيم التي يعتنقها الإنسان الهندي، كما انها حددت أساليب
حياته وتقاليده وطقوسه بشكل عام. لكن هيغل يرى أن الدين في الهند مقطوع
الصلة بالأخلاق. وعليه فهو يستنتج أن (الوضع الأخلاقي عند الهنود… أكثر
الأوضاع انحطاطا أو فسادا). ولتعزيز رأيه يقول هيغل: (ويتفق الإنجليز جميعا
على ذلك)(30).
انطلاقا
من ذلك، يقرر هيغل أن (الخداع والمكر هما الخاصيتان الأساسيتان للرجل
الهندي، فالغش والسرقة والسلب والاغتيال هي بالنسبة له أمور عادية مألوفة
تكمن في عاداته وأعرافه. وهو يحني رأسه في مذلة ومهانة أمام المنتصر وأمام
السيد، وهو متوحش قاس تماما لا يبالي شيئا إزاء المغلوب وإزاء من هو أدنى
منه…)(31)، ويذهب هيغل إلى الزعم بأن الصدق هو (الضد المباشر) لطبيعة
الهنود، (فهم يكذبون عن عمد؛ حيث لا يكون الأمر متعلقا بسوء الفهم)(32).
من
دون شك، فإن النظام الطبقي في الهند يثير مسائل أخلاقية وخلافية كثيرة،
خصوصا وأنه يبدو عصيا على التبدل والتغيير. لكن هذه القضية -أي قضية
التقسيم الطبقي- تبدو شائكة، خصوصا إذا ما تم تناولها من خلال المنهج
المقارن. وعلى سبيل المقاربة، فإن رجال الكنيسة المسيحية كانوا يشكلون وحدة
متمايزة بوضعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ولم يتبدل وضع هذه الطبقة
إلا مع حدوث الإصلاح البروتستانتي. لكن هذا الأمر لم يحدث في الهند لأسباب
تتعلق بطبيعة البناء الطبقي للمجتمع الهندي. مع ذلك فتوصيفات هيغل تبدو هنا
غير علمية بتاتا، وهي من دون شك استعلائية مقيتة. كذلك فإن استشهاد هيغل
باتفاق الإنجليز على فكرة ما بخصوص الإنسان الهندي لا يعطي أي مصداقية لما
يثبته هو. ولو طبقنا معايير النقد الحديثة (خصوصا المدرسة الكولنيالية)
لرأينا أن الفكرة التي يعرضها هيغل من خلال استشهاده برأي (الإنجليز) إنما
توحي شيئا آخر؛ ذلك أن ما يقوله النص الهيغلي متخفيا وراء الاقتباس
الإنجليزي إنما يطمس الحقيقة الهندية، أو أنه على أقل تقدير يشوهها بشكل
فاضح؛ ذلك أن ما يقوله أي نص إنما يخفي وراءه شيئا آخر لم يجد حقه في
الظهور. والرواية الإنجليزية ليست مفبركة، ولكنها (نص) إنجليزي ولا تقدم
إلا وجهة نظر شخص مستعمر. وعلى هذا فإن النص الهيغلي المستند إلى وثيقة أو
رواية إنجليزية (والمفارقة أن هيغل يعتمد كثيرا على تقارير الإنجليز في
الكتابة عن الهند)، تخفي الجانب الآخر من القصة. فالإنجليز كتبوا عن الهند
من وجهة نظر إنجليزية بحتة. وسواء أكانت هذه الكتابات صحيحة أم خاطئة،
فإننا لا يمكننا تاريخيا الجزم بصحتها أو وثاقتها. إن اعتبار كل ما كتبه
الإنجليز عن الهنود صحيحا هو تماما مثل الاعتماد على التقارير الإسرائيلية
في النظر إلى الفلسطينيين في الوقت الحاضر. فكم هي نسبة الصدق في كتابات
الضباط الإسرائيليين بخصوص الفلسطينيين؟ أعتقد أنه لا حاجة للإجابة.
ويمكن
تلمس مقدار الموقف السلبي لهيغل من الهنود عند تناوله لمسألة الفن والعلوم
الهندية؛ ذلك إن الحديث عنهما -حسب هيغل- سوف يبعدنا (جدا عن سياقنا). إن
هيغل هنا يقف على الضد تماما من الشغف الرومانسي الذي اجتاح دول أوروبا
بخصوص الشرق والاكتشافات الأدبية والعلمية المذهلة التي عثر عليها
المستشرقون. فهيغل يرى أن هذه الموجة ماهي إلا حماس جارف (أدى إلى المبالغة
الشديدة في سموها، وكالعادة عندما يكتشف المرء ألوانا جديدة من الكنوز
فإنه ينظر باحتقار إلى الألوان القديمة التي يملكها، ولقد كانت تلك هي
الحال فقد قوبل فن الشعر الهندي والفلسفة الهندية بإطراء بالغ رفعهما فوق
الشعر والفلسفة اليونانية)(33).
يتحول
هيغل هنا إلى منظر قومي ديماغوجي مشبع بروح الزهو اليونانية المسيحية. فهو
لا يريد أن يقارن بين تراث الهند وفلسفة اليونان. وهيغل هنا تحديدا لا
يرقى إلى الفكر الإنساني لأكبر أدباء ومفكري أوروبا، خصوصا في ألمانيا
(غوته، شيللر، ليسنغ)، هذا التيار الفكري الذي استوعب أجمل ما في التراث
الشرقي الإسلامي العربي والفارسي والهندي.
لقد
قدمت الهند للحضارة الإنسانية كنوزا ضخمة من العلوم والآداب والفنون. فعلى
مستوى العلوم يكفي الاعتراف بإنجازات الحضارة الهندية في علم الفلك، وما
حققه العلماء الهنود على مستوى النظريات العلمية والتطبيقية من القول
بكروية الأرض وشرح نظرية الجاذبية وتحديد مواقع النجوم والكواكب وغير ذلك
الكثير. كذلك ارتبط علم الفلك بتقدم علوم الرياضيات، حيث قطع الهنود في هذا
العلم تحديدا خطوات هائلة ومنحوا العالم ثروة هائلة في الحساب الرياضي
والأعداد كما وضعوا القواعد العامة لعلم الجبر. إضافة إلى ذلك فقد برع
الهنود في علوم الكيمياء والفيزياء والطب في وقت لم تكن أوروبا تعرف شيئا
من كل ذلك.
إن
هيغل هنا يغفل -وبشكل عجيب- مفهوم تكامل العلوم، وهو يميل إلى ما يسمى
بفرادة النموذج الغربي. إن هيغل- وهنا العجيب- يحاول طمس حقائق التاريخ من
خلال التقليل من قيمة المنجز الحضاري الذي قدمته الشعوب غير الغربية. فهيغل
لا يريد أن يعترف بأن ما تحقق في أوروبا ما هو إلا ثمرة التراكم الحضاري
بين الشعوب المختلفة. فعلوم اليونان والرومان ماهي في الأصل إلا ثمرة
التقدم الذي تحقق في الحضارات البابلية والمصرية والفينيقية. والعرب
المسلمون قد استفادوا كثيرا من علوم الهند والصين وكذا فلسفة اليونان. اما
العلوم الأوروبية الحديثة وفلسفاتها فما هي إلا إعادة إنتاج حضاري للإرث
الضخم الذي أنتجته جميع الحضارات السابقة.
المفارقة
الكبرى أن الأوروبيين عموما يميلون إلى التقليل من منجز الحضارات الكبرى
السابقة -باستثناء اليونان- ويروجون لفكرة فرادة النموذج الأوروبي المتصل
بالقاعدة الحضارية اليونانية. بمعنى آخر فإن المنجز اليوناني/الأوروبي يقدم
وكأنه منقطع عن التراث الإنساني غير الغربي، وهو ما لا يمكن تقبله حتما.
إن العلم الغربي -حسب هذا الفهم- يبدو نابعا من قدرة علمية خارقة لا
يمتلكها (الآخر). كذلك فإن الأوروبيين لا يرون في الآخرين إلا مجرد نقلة
لتراث الآخرين، حيث يوجه هذا الاتهام خصوصا تجاه الحضارة
العربية/الإسلامية.
إن
هيغل يبني تقييمه وتصوره العام عن الحضارة الهندية بالاستناد إلى خليط غير
متجانس من الوثائق والكتابات. فهو ينظر إلى الهنود من خلال كتب الأدب
والأساطير الهندية التي لا يمكن اعتبارها بكل الأحوال وثائق قاطعة. كذلك
ينظرهيغل إلى حضارة الهنود من خلال عيون وتأملات الضباط الاستعماريين
الإنجليز خصوصا أولئك الذين عملوا في شركة الهند الشرقية. إن هيغل يحول
القصة التي يرويها تاجر أو ضابط إنجليزي إلى مبدأ قاطع في الحكم على الهنود
جميعا، وهو ما يثير الشك كثيرا. وما هو أهم من ذلك فإن هيغل لا يقدم نفسه
قارئا محايدا لتاريخ الشعوب، فهو يقف كخصم يحاجج ضد فلسفاتها وتقاليدها
وذلك أبعد عن مهنة المؤرخ، فضلا عن فيلسوف التاريخ.
هيغل: الإسلام، العرب والفرس
بينما
يخصص هيغل مجالاً لا بأس به للحديث عن الحضارة الفارسية، فإنه يبدي تجاهلا
واضحا وعنصريا تجاه العرب والإسلام من دون لبس ودوران. فهل نظرهيغل إلى
تاريخ العرب من خلال واقعهم التاريخي الذي عاش فيه، أي في القرنين الثامن
عشر والتاسع عشر، حيث كان العرب لا يمثلون إلا قبائل بدوية تعيش في الصحراء
تسيطر على مقدراتها الأمم الأخرى؟ ولماذا لا نلحظ أي ذكر للحضارة العربية
الإسلامية التي امتدت لأكثر من ستة قرون؟ لماذا تجاهل هيغل ذلك التراث
العلمي والفلسفي الكبير الذي خلفته الحضارة العربية الإسلامية؟ هل هناك سبب
مقنع لهذا التغافل؟
إن
هيغل، بادئ ذي بدء، يتحدث عن التوحيد الإسلامي باعتباره الفكرة الجوهرية
لهذا الدين. كما أن الإسلام يتميز بعقيدته الشمولية على عكس اليهودية التي
اقتصرت بدعوتها على مجموعة محددة (شعب الله المختار). الإسلام نجح -بحسب
هيغل- في تحويل الفرد إلى إنسان شجاع عظيم ونبيل يمتلك روحا عالية. كما
يعترف هيغل بأن العقيدة الإسلامية كانت هي العامل الوحيد الذي أدخل شعوب
أفريقيا في نطاق الحضارة. ويؤكد هيغل صراحة بأن المسلمين فهموا (أفضل من
الأوربيين كيف ينفذون إلى هذه البلاد)(34)؛ لكن هيغل لا يمضي في تحليل هذه
النقطة المهمة ولا كيف استطاع المسلمون فعل ذلك، بينما فشلت الحملات
التبشيرية الأفريقية في إنجاز مثل هذا التحول في المجتمعات الأفريقية خصوصا
بين القبائل الوثنية البدائية.
وهنا
تحديدا يبدي هيغل تحاملا واضحا تجاه الزنوج، فهو يكيل الأوصاف المقذعة
للأفارقة، معتبرا الزنجي رمز (الإنسان الطبيعي في حالته الهمجية غير
المروضة تماما، ولا بد لنا إن أردنا أن نفهمه فهما حقيقيا سليما أن نضع
جانبا كل فكرة عن التبجيل والأخلاق، وكل ما نسميه شعورا أو وجدانا، فلا شيء
مما يتفق مع الإنسانية يمكن أن نجده في هذا النمط من الشخصية، والروايات
الغزيرة والمفصلة التي يرويها المبشرون تؤكد ذلك تماما)(35).
ويذهب
هيغل إلى أقصى حد في السخرية من الأفارقة، كاشفا عن سذاجة تامة في فهم
شخصية الإفريقي. فهيغل يعزو ميل الزنوج إلى تعدد الزوجات إلى رغبتهم في
(الحصول على عدد كبير من الأطفال ليباعوا جميعا كرقيق – وكثيرا ما تسمع
شكاوى ساذجة في هذا الصدد، كما هي مثلا في حالة ذلك الزنجي الذي كان ينتحب
في لندن؛ لأنه أصبح الآن فقيرا تماما بعد أن باع بالفعل كل ذويه)(36).
لا
شكَّ أن هيغل يكشف هنا عن عقلية بدائية. فهو لم يكلف نفسه طرح السؤال
البسيط: هل عاش الأفريقي كل حياته السابقة على الاستعمار الأوروبي وهو ينجب
أطفاله هؤلاء بنية بيعهم للرجل الأبيض؟ وماذا لو لم يحدث الغزو الاستعماري
الأوروبي لقارة أفريقيا، هل كان حال هؤلاء الأطفال أنهم سيباعون في أرض
أخرى؟ كيف لم يقرأ هيغل أي شيء عن الأفريقي الذي نجح في بناء إمبراطوريات
كبيرة في مالي وغانا والسودان وغيرها، تحطمت بفضل أسلحة الرجل الأبيض، كما
حصل في الصين والهند وغيرهما من أجزاء المعمورة؟
إن
هيغل، وبدلا من تقديرالبطولة الخارقة التي كان الأفارقة يبدونها في مواجهة
الجيوش الأوروبية الغازية، أو على الأقل فهمها بشكل صحيح، يعرض تفسيرا
عنصريا بحتا. يقول هيغل:
(وهكذا
فإن السمة التي يتميز بها احتقار الإنسانية عند الزنوج ليست هي ازدراء
الموت، بقدر ما هي الافتقار إلى احترام الحياة. وينبغي أن نعزو الشجاعة
العظيمة التي نجدها عندهم إلى سمة افتقارهم لاحترام الحياة هذه، التي
تدعمها قوة بدنية كبيرة، وهذه الشجاعة تظهر عند أولئك الزنوج الذين كان
الآلاف منهم يتعرضون بمحض إرادتهم للموت برصاص الأوروبيين وهم يقاتلونهم،
فالحياة لا قيمة لها إلا عندما تتخذ من شيء ذي قيمة هدفا لها)(37).
إن
فضائل الأفريقيين تتحول -عند هيغل- إلى رذائل؛ فالتضحية والاستهانة بالموت
تتحول إلى انعدام تقدير الحياة. (ربما كانت محاججة هيغل العنصرية هذه تشكل
أساسا للفهم الغربي الحديث لقضية مواجهة الموت عند المسلمين خاصة).
يعترف
هيغل إذن بتأثير قوة الدين الإسلامي وقدرته على تطهير الروح البشرية وعلى
دوره في نشر عقيدة الواحد الأحد بجعلها شيئا (مطلقا والنهاية الوحيدة
للحقيقة)، وهو ينسب ذلك إلى بساطة المبدأ الإسلامي؛ لكنه من جهة أخرى يتحدث
عن (بلاد العرب، إمبراطورية التعصب)(38).
إن
رأي هيغل متأثر -بلا شك- بتراث المواجهة المسلحة بين المسلمين العثمانيين
وأوروبا المسيحية. وحال هيغل مثل حال كبار مفكري أوروبا عصر التنوير الذين
رأوا الإسلام من خلال تلك المواجهة العسكرية الشاملة بين الإسلام التركي
وأوروبا المسيحية. لقد كان هيغل مثل فولتير وروسو، وكذا لوثر قبلهم يسمي
المسلمين تركا والعكس صحيح. وهذا التمازج بل والتطابق يقترن بنظرة احتقار
على اعتبار أن هذا الدين هو رمز الرعب والتخلف والانحطاط.
وكما
صرح رودنسون، فقد كان الإسلام (يماثل عمليا مع الترك وكلمة تركي تصير
مرادفة لـ(مسلم…، أما العرب الذين قهروا إلى ما يشبه العدم السياسي، فلن
يعودوا يظهرون إلا بشكل ثانوي جدا في اللوحة التي كانت تنشأ عن الشرق،
مماثلين تقريبا بالبدو النهابين)(39).
إن
ازدواجية موقف هيغل تجاه العرب والمسلمين يمكن إرجاعها تحديدا إلى أسس
البنية الفكرية التي كان يقوم عليها المنهج الهيغلي أصلا. فعلى الرغم من أن
هيغل ينظر بإيجابية إلى الإسلام كدين توحيدي، إلا أن صفة التعصب لاصقة به
دوما. لذلك لا يمكن الحديث هنا عن إعجاب هيغلي بالإسلام كما ذهب إلى ذلك
بعض الباحثين(40). ربما كان الأصح القول: إن هيغل سار خطوة إلى الأمام، كما
فعل ذلك قبله فولتير، لكنه لم يستطع أن يخرج عن الصورة النمطية كثيرا. بل
إن هيغل لا يقدم أي تقييم إيجابي للنبي محمد –صلى الله عليه وسلم-. إن هيغل
هنا لا يرتقي بفكره الإنساني إلى مصاف مواطنه غوته أو ثوماس كارليل مثلا.
هيغل في الحق لم يستطع أن يتحرك إلا خطوة قصيرة جدا عن فكر القرون الوسطى
حين كان المخيال الشعبي المسيحي قد صاغ صورة للإسلام متأثرة إلى حد كبير
بتاريخ المواجهة العسكرية بين المسلمين والمسيحيين (الحملات الصليبية وحروب
الاسترداد في إسبانيا)، هي أقرب للديانة الوثنية منها إلى التوحيد. لقد
كان المسلمون -بحسب هذا التصور- يمارسون طقوسهم الوثنية في الكعبة، ويقدمون
قرابينهم للآلهة فينوس. ووفقا لهذا التصور فإن الفضل في انتصارات العرب
المسلمين المتعصبين في حروبهم إنما تعود أصلا لا إلى قوة روحية نابعة من
الإسلام؛ بل هي عقاب إلهي تجاه المسيحيين الذين حادوا عن طريق الرب، أما
النبي محمد فيتحول -حسب هذا التصور الشعبي- إلى مجرد صاحب دعوة هرطقة، حيث
يقلده أتباعه الساراسين بشكل أعمى(41).
يضع
هيغل استنادا إلى تقسيمه التاريخي وبشكل غير مبرر الحضارات البابلية
والآشورية والفينيقية فضلا عن الفرعونية تحت مسمى الحضارة الفارسية. وهيغل
إذ يقسم آسيا إلى قسمين: (آسيا القريبة وآسيا البعيدة)، فإنه يضع الصينيين
والهنود في الجنس الآسيوي الأصيل الذي يسميه (الجنس المغولي). ويعتقد هيغل
أن لهذا الجنس الآسيوي المغولي طابعه الخاص المختلف تماما عن (الطابع الذي
يميزنا) (الجنس الأوروبي). وبحسب هذا التقسيم تكون فضيلة الحضارة الآسيوية
القريبة، ناتجة عن كونها قريبة من أوروبا. وهكذا فهو يرى في آسيا القريبة
والتي (تنتمي إلى الجنس القوقازي، أعني إلى العرق الأوروبي)(42) قربا روحيا
لا بسبب تميزها وإبداعها الذاتي القائم على فرادتها، بقدر ما هي تعود إلى
التأثير الأوروبي الذي يعطيه هيغل هنا عمقا تأريخيا يمتد إلى زمن وجود هذه
الحضارات الآسيوية القديمة، حيث لم يكن لأوروبا أي وجود يذكر، اللهم إلا في
الغابات والكهوف.
ويستلب
هيغل أفضل ما قدمته الحضارات التي نشأت على الأرض العربية لتصبح من فضائل
أوروبا لا من إبداع البابليين أوالآشوريين أو المصريين أو الفينقيين. إن
أروع ما أتت به آسيا القريبة من أوروبا -بحسب هيغل- (لم تحتفظ به لنفسها
وإنما بعثت به إلى أوروبا. فهي تمثل البداية الأولى لكل المبادئ الدينية
والسياسية، لكن أوروبا كانت مسرح تطور هذه المبادئ ونموها)(43)، وكما تقدم
فإن هيغل يقطع متشك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
هيغل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» فلسفة الفيلسوف هيغل وبحث الدين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات التعليميه والخدميه  :: 

منتديات التعليميه والخدميه العامه

 :: 

منتدى الاخبار الثقافيه والتعليميه

-
انتقل الى: