العبقرية العسكرية السورية : فنّ الحرب في مواجهة حرب العصابات
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة](الحرب مسألة خطيرة للدولة , إنها ميدان الحياة أو الموت , و هي الطريق التي تؤدي إلى العيش و الفناء , لذلك من المستحيل عدم دراستها بعمق )
مقولة كتبها المفكر العسكري و المخطط الاستراتيجي الصيني سن تزو قبل 2500 عام في كتابه ''فن الحرب'' , و استناداً عليها سنقوم في معرض البحث في الحرب الدائرة على الأرض السورية بدراسة أساليب العدو الحربية و النفسية التي كان يهدف من خلالها و لا يزال إلى كسب الحرب , و كيف أن المخططين للحرب على سورية قد جعلوا طوال الفترة الماضية يطبقون ما جاء في كتب التخطيط العسكري و الاستراتيجي عن مفاهيم (حرب العصابات ) حرفياً في صراعهم مع الجيش العربي السوري و الدولة السورية و كيف ردّ المخطط السياسي والعسكري السوري مستنداً على ذات المفاهيم العسكرية و القواعد الإستراتيجية التي أرساها ''سن تزو'' و من بعده ''ماوتسي تونغ'' و ''كلاوزفيتز''* و غيرهم لكن بطريقة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً.
يقول سن تسو : '' إن أخذ بلاد العدو سالمة، هو أفضل من تدميرها، وأسْر الجيش المعادي أفضل من تدميره'' هذا تماماً ما حاول الأعداء فعله في بدايات ما سمي ( الثورة السورية ) عندما أرادوا إسقاط الدولة السورية من خلال المظاهرات و الحرب النفسية التي شنتها وسائل إعلامهم وبذلك يكونوا قد وضعوا أيديهم على مفاصل الدولة بما فيها الجيش العربي السوري دون تدميره لاستخدامه لاحقاً في تحقيق مكاسب أخرى لهم ( كالقضاء على حزب الله مثلاً ). و هذا ما أكد عليه ''سن تزو'' أكثر من مرة «فإحراز مئة انتصار في مئة معركة ليس هو الأفضل، بل إن إخضاع العدو بدون قتال هو أفضل ما يكون»لكنهم سرعان ما تخلّوا عن هذا النهج لمجموعة من الأسباب أهمها أن المخطط السياسي السوري استخدم في ردّه على هذا المخطط ذات الأسلوب أي احتواء الموقف و شد المعارضة باتجاه الدولة بدل تدمير تلك المعارضة و تفكيكها هنا انتقل الأعداء لتبني مقولة كلاوزفيتز ( لا تحدثونا عن قادة ينتصرون دون سفك الدماء )! و يقول سن تزو : في حال عدم إمكان الوصول الى تلك النتيجة (أي هزيمة العدو دون قتال ) وبالوسائل المتوافرة، فعندها يتم اللجوء الى القوة المسلحة لتحقيق النصر و لكن بشرط : '' إذا قررنا شن حرب فلا بد أن تكون هذه الحرب خاطفة حاسمة، فإذا تأخر النصر يفقد المقاتل روح القتال وينهار معنوياً وتخور عزائمه''.
ما فاجأهم أن القيادة السورية و عوضاً عن السعي لحسم الموقف سريعاً من خلال الخيار العسكري تعاملت مع الموقف بهدوء و روية و عمدت إلى إطالة أمد المواجهة لعدة أسباب , منها:- حتى يتضح المشهد لشريحة واسعة من السوريين بأن المسألة في أساسها ليست حراكاً شعبياً عفوياً هدفه الحرية و الديمقراطية كما يريد الأعداء تصويره و إنما هو فعلاً مؤامرة خارجية لإسقاط سوريا و تفكيكها ( رغم أحقية كثير من المطالب التي خرج لأجلها العديد من الشرفاء و الوطنيين ).- إيضاح ذات المشهد للحلفاء الدوليين.- الوصول إلى فرز مجتمعي داخلي و دولي نهائي يحدد التموضعات و الجبهات بكل وضوح تمهيداً للهجوم المعاكس.
لكن العدو لم يكتف بتطبيق مبدأ كلاوزفيتز , بل انتقل إلى أسلوب الحرب الذي أدى استخدامه دوماً لهزيمة العدو و لو كان يملك أكبر الجيوش و أقواها من خلال تنفيذ خطط و مبادئ حرب العصابات التي وردت في كتاب الزعيم الصيني الراحل ماوتسي تونغ ( حرب العصابات ) و كتب منظّرين آخرين حولها , حرفياً... نذكر منها :- من الأفضل في الحرب ضرب إستراتيجية العدو، ثم ضرب تحالفاته، ثم مهاجمة جيوشه، وتجنب مهاجمة المدن المحصنة إلا عند الضرورة.
- عندما يرتاح العدو نتعبه - يجب البروز فجأة حيث لا يمكن للعدو الوصول، والذهاب إلى حيث لا يتوقّع ( تسلل المسلحين إلى المناطق السكنية و النائية ) .- يجب شنّ هجوم بأعداد كبيرة ضد قوات عدو قليلة العدد ومبعثرة ( هو ما فعله الإرهابيون من خلال استهداف حواجز الجيش و التشكيلات العسكرية قليلة العدد و البعيدة عن مراكز ثقل القوات المسلحة )- قد تخضع مجموعة العصابات للتنظيم , و لكنها تحارب في وحدات صغيرة مستقلة بعضها عن بعض و ترتكز إستراتيجيتها على الهجوم المباغت.
- تتركز عمليات العصابات خلف خطوط ( العدو ) مما يمكنها من الانقضاض المفاجئ عليه , و تدمير إمداداته من خلال الهجوم المفاجئ و الانسحاب السريع لإشاعة جو من القلق و التحفز الدائمين.- أهم أساليب حرب العصابات: زرع المتفجرات و اختطاف الرهائن و أشكال العنف المختلفة مع محاولة استمالة الريفيين و الحصول على دعمهم و تعاطفهم مع التحرك المسلّح و في أعقاب ذلك استقطابهم و تعبئتهم ( هذا هو السبب الرئيسي لكون تحركهم في سوريا نشأ و ترعرع في الأرياف ) الأمر الذي يوفر لعناصر العصابات إمدادات الطعام و غيرها من الاحتياجات بالإضافة للمقاتلين.تتركز استراتيجيات رجال حرب العصابات في صراعهم ضد الحكومة ( بشكل عام ) على استخدام الهجوم المباغت و التدمير و الاغتيالات و كل وسائل الهجوم الإرهابية التي تفت من عضد القوات الحكومية و تنهك قواها بهدف إضعاف ثقة المواطنين بالحكومة و من ثم إقناعهم بعجزها عن حمايتهم ( هذا هو سبب ما نشهده من تفجيرات و اغتيالات في سوريا !).- يتفادى عناصر حرب العصابات المواجهة المباشرة مع قوات الحكومة , إلا في ظروف معينة تسمح لهم بمهاجمة الأهداف التي يتم اختيارها بدقة.
و يتجنبون المواجهة المكشوفة نظراً لتفوق القوات الحكومية التي تستخدم بجانب المشاة , المدفعية و الدبابات و الطائرات و قدرتها على إبادتهم في هكذا قتال مكشوف.- يستمد رجال العصابات قوتهم من مقدرتهم في التأثير على الجماهير، واكتساب تعاطفها, وتستخدم عدة وسائل لإثارة الجماهير ضد الحكومة ( هنا جاء دور القنوات الإعلامية المحرّضة كالجزيرة و العربية ) ، أهمها إثارة المشكلات السياسية والعرقية و الاجتماعية مما يرغم الحكومة على اتخاذ إجراءات صارمة ضد المواطنين ويترتب على ردود فعل السلطة انحياز الجمهور إلى جانب رجال العصابات ( لهذا السبب لم تستجب الدولة لمطالبات البعض باستخدام القوّة المفرطة ).
- يجب الاعتماد التام على التخفي بالاندساس والاختلاط بالسكان المحليين ( من هنا جاءت تسميتهم بالمندسين! ).- يفضل الهجوم على المنشآت المنعزلة لأثرها السيكولوجي، فضلا عما تؤدي إليه من إجبار العدو على الانتشار وتوزيع قواته بالإضافة إلى توفر المؤن والسلاح بها بكميات كبيرة نسبيا ( هذا ما شهدناه من خلال هجومهم على المطارات و التشكيلات العسكرية المتباعدة).
- يجب سحب أسلحة ووثائق القتلى من رجال العصابات ( لهذا هم في سوريا دائماً يحاولون سحب جثث قتلاهم أو حرقها ).ما قرأتموه أعلاه هو جزء من مجموعة مبادئ و خطط و أساليب حرب العصابات التي حاول العدو تطبيقها في حربه على سوريا ....لكن على الجهة المقابلة , كان هناك من يبرع في التخطيط العسكري و الاستراتيجي , فوضع المخطط العسكري السوري نصب عينيه مبادئ فن الحرب التي أسس لها سن تسو بقوله: عناصر فن الحرب هي:تقدير الوضع، تقدير الإمكانات، الحسابات، التقييمات واحتمالات النصر، وتقدير الوضع مرتبط بمساحة الدولة، والإمكانات مرتبطة بتقدير الوضع، والحسابات مرتبطة بالإمكانات، كما أن التقييمات مرتبطة بالحسابات، والنصر مرتبط بالتقييمات ...... و (يمكن للقائد إذا عرف كيف يرتب جنوده أن يزجّهم في المعركة بقوة المياه المكبوتة التي تحطّ فجأة وبقوة من علِ )لذا كان من الضروري قبل بدء العمل العسكري و الهجوم المعاكس بذل جهد استخباري و تجسسي على مستوى واسع و شامل عملاً بالقاعدة الذهبية لفن الحرب التي أشار لها سن تزو بقوله:
'' إذا كنت تعرف نفسك و لا تعرف العدو ..فكل نصر تحرزه في معركة يقابله هزيمة في معركة أخرى ...إذا كنت لا تعرف نفسك و لا تعرف العدو فإنك ستهزم في كل معركة ...أما إذا كنت تعرف نفسك و تعرف العدو ...فلا تخشَ عاقبة مائة معركة ' و يقول في موضع آخر( من لا يعرف خطط العدو لا يمكنه الاقتراب منه قبل المعركة) فبدأت عمليات زرع الجواسيس و العملاء و اختراق البنية التنظيمية و القيادية للمجموعات المسلحة و التصنت على الاتصالات و جمع المعلومات من كافة المصادر المتاحة ( سيأتي يوم يظهر فيه للعلن حجم الاختراق الهائل الذي حققته أجهزة الاستخبارات السورية على هذا الصعيد ).
لكن أهم ما قام به المخطط العسكري السوري كان إيقاع العدو في أكبر خطأ يرتكبه من يستخدم أسلوب حرب العصابات , و هو إغراؤه بالسيطرة على مناطق سكنية و تجمعات حضرية و إيهامه أن الوقت بات ملائماً للتمركز و إنشاء مقرات و مراكز قيادة و معسكرات ثابتة و التعامل مع السكان بصيغة الحاكم و المحكوم فما الذي نتج عن ذلك؟- وضع العدو في مواجهة السكان المحليين الذين و عوضاً أن يقوم باستمالتهم كما تنص مبادئ حرب العصابات بدأ يستغل أرزاقهم و ممتلكاتهم بحجة دعم العمل المسلح (نتيجة قيام الجيش بقطع طرق إمدادهم ) مع ما رافق ذلك من تجاوزات و سرقات و عمليات قتل و إرهاب بحق من كان يفترض أن يكونوا بيئة حاضنة للمسلحين , ما أدى لتحولهم إلى بيئة رافضة لهم و مستعدة لتقديم يد العون للقوات الحكومية بهدف التخلص منهم.
- منح القوات المسلحة فرصة أفضل لاستهداف تجمعات العدو و مقرات قيادته و مراكز تدريبه بدّقة من خلال القصف المدفعي و الغارات الجوية كونها جميعها باتت معروفة و محددة.
- فرَض التمركز بأعداد كبيرة في القرى و المدن على العدو استخدام طرق و ممرات محددة لإيصال الإمدادات و الذخيرة و الدعم اللوجستي لعناصره و بالتالي انقلاب السحر على الساحر , فبدلاً أن يكون هو من يقوم باستهداف خطوط إمداد الجيش أصبح الجيش العربي السوري يستهدف خطوط إمداد المجموعات المسلحة بكثافة و بدقة كبيرة نتيجة عمليات الاستطلاع الجوي مضاف إليها المعلومات الواردة من العملاء المتواجدين خلف خطوط العدو.
- عوضاً عن أن يقوم الجيش العربي السوري بنشر قواته على مساحات واسعة و متباعدة اضطر العدو إلى فعل ذلك بهدف منع القوات المسلحة من استرداد المناطق التي يسيطر عليها.
و بذلك استطاع العقل السوري المخطط إيقاع العدو في ما حذّر منه ''سن تزو'' الذي قال ( إن كسب المعارك واحتلال الأهداف ولكن من دون النجاح في استغلال النصر هو نذير شؤم ).
لكن العبقرية العسكرية السورية لم تتوقف عند هذا الحد , بل قامت بما لم يخطر على بال جهابذة التخطيط العسكري المعادي , و هو الاستخدام الناجح لذات الأسلوب الذي فشلت العناصر المسلحة به أي أسلوب حرب العصابات , حيث تم الاعتماد على وحدات نخبة مدربة على حرب الشوارع و المدن و زجها على الجبهات التي لا يتوقعها العدو لا من حيث المكان و لا الحجم و لا التوقيت و القيام بعمليات خداع تكتيكي على مستوى القرى و المناطق الصغيرة و عمليات خداع استراتيجي على مستوى المدن و المحافظات من خلال إيهام العدو أن الهجوم سيكون على محور معين ثم الهجوم من محور آخر , وحصار أماكن تجمع العدو و قطع خطوط إمداده و شن عمليات عسكرية خاطفة نتيجة استقلالية عمل تلك الوحدات و قدراتها الحركية العالية التي لا تشبه على الإطلاق حركية الجيوش النظامية رغم الطاقة النارية الكبيرة التي بحوزتها .
و بالتالي تغير كامل المشهد المتعلق بمسرح العمليات الحربية بشكل دراماتيكي ( القصير , ريف دمشق , ريف حماه , ريف درعا ,حمص المدينة ....., و قريباً في حلب و كل المناطق ) بحيث أصبح الجيش العربي السوري هو صاحب المبادأة و هو من يختار مكان و زمان المعارك في سابقة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها عندما يواجه جيش نظامي مجموعات مسلحة تستخدم أسلوب حرب العصابات , عدا عن استخدامه مجموعات ''تخريب'' تعمل في الخفاء و خلف خطوط العدو لإقامة الكمائن المحكمة و الاغتيالات التي تستهدف قيادات المجموعات المسلحة و توجيه الضربات الدقيقة و المستمرة لهم بحيث لا يُسمح لهم بأن يرتاحوا بالإضافة لضرب الروح المعنوية و القتالية لهم من خلال زرع الشك و الخلافات بين مجموعاتهم بأساليب كثيرة (من الأفضل عدم ذكرها الآن).
-------------------------------
- الــخـاتـمـة :
كثيرون منا استغربوا و يستغربون لماذا كان جميع أعداء سوريا واثقين من انهيارها و سقوطها ثقة عمياء, ما الذي حدا بهم إلى المراهنة على ذلك بأموالهم و مناصبهم و مواقعهم السياسية و الدولية ضاربين بعرض الحائط كل قواعد العمل السياسي و الدبلوماسي و الإعلامي و أهمها ضرورة ترك طريق العودة مفتوحاً في حال فشل المخطط ؟ من المعروف أن أساس العمل الدبلوماسي و السياسي هو المواربة و التورية و السديمية بهدف التملص من المواقف المحرجة و الغير مرغوب بها , لكنهم مع سوريا بالتحديد كانوا كمن يملك الكرة السحرية و بإمكانه رؤية أن النظام في سوريا سيسقط لا محالة إلا إذا حدثت معجزة!السبب بكل بساطة أن الخطة التي وضعها الأعداء كان احتمال فشلها بالنسبة لهم معدوماً , إذ لم يسبق أن انتصرت دولٌ عظمى تملك جيوشاً نظاميةً جرّارة بشكل كامل على مجموعات مسلحة قليلة العدد تستخدم أسلوب حرب العصابات و تحظى بدعم محدود ( الاتحاد السوفييتي هُزم في أفغانستان- فرنسا و الولايات المتحدة هُزمتا في فيتنام - الكيان الصهيوني هُزم في جنوب لبنان و في غزة... ) فكيف بها إذا كانت تضم عشرات آلاف إن لم يكن مئات آلاف المقاتلين المدربين القادمين من كل حدب و صوب و مدعومة سياسياً و عسكرياً و مالياً و مخابراتياً و إعلامياً بشكل لا محدود من أغلب دول العالم ؟ عدا عن التحريض المذهبي و فتاوى ( الجهاد )!!
إذاً كيف فشل كل هذا؟
قريباً.....سيُكتب الكثير من التحليلات والمقالات و الكتب و سيتنطح الكثير من المفكرين والخبراء الاستراتيجيين و مراكز الأبحاث والأكاديميات العسكرية و المستشرقين و أصحاب النظريات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية و سيهرش أغلب الزعماء السياسيين والقادة العسكريين و أصحاب القرار في هذا العالم رؤوسهم في محاولة للإجابة على سؤال القرن الواحد والعشرين: ( كيف انتصرت سورية على العالم؟ ).
و الجواب موجود في كلمات قالها لهم منذ البداية قائد الجيش و الشعب اللذان صنعا معجزة هذا القرن :
( نحن نقر لهم بذكائهم في اختيار الأساليب المتطورة جدا فيما فعلوه ولكننا نقر لهم بغبائهم للاختيار الخاطئ للوطن والشعب حيث لا ينجح هذا النوع من المؤامرات)
و ليسمح لي سن تزو أن أضيف جملة على كتابه ''فن الحرب'' : ( الوطن الذي يملك جيشاً قوياً مغواراً مضحياً كالجيش العربي السوري و شعباً عظيماً عزيزاً وفياً صبوراً مؤمناً كالشعب السوري و قائداً فذاً مقداماً صلباً كالرئيس بشار الأسد ...وطنٌ لن يعرف طعم الهزيمة أبداً ).